فصل: ذكر حريق برج الكبش وغيره من الآلات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر وصول البطس من مصر:

ولما كان العشر الأوسط من شعبان كتب بهاء الدين قراقواش وهو والي البلد والمقدم على الأسطول والحاجب لؤلؤ يذكران السلطان أنه لم يبق بالبلدة ميرة إلا قدر يكفي إلى ليلة النصف من شعبان لا غير، فأسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لخاص ولا لعام خشية الشيوع والبلوغ إلى العدو فتضعف به قلوب المسلمين، وكان قد كتب إلى مصر بتجهيز ثلاث بطس مشحونة بالأقوات والأدم والمير وجميع ما يحتاج إليه في الحصار بحيث يكفيهم ذلك طول الشتاء، وأقلعت البطس الثلاث من الديار المصرية ولججت في البحر تتوقى النوتية بها الريح حتى ساروا بالريح التي تحملها إلى نحو عكا، ولم يزالوا كذلك حتى وصلوا إلى عكا ليلة النصف من شعبان المذكور وقد فني الزاد، ولم يبق عندهم ما يطعمون الناس في ذلك اليوم، وخرج عليها أسطول العدو يقاتلها، والعساكر الإسلامية تشهد ذلك من الساحل، والناس في تهليل وتكبير، وقد كشف المسلمون رؤوسهم يبتهلون إلى الله تعالى في القضاء بتسليمها إلى البلد والسلطان على الساحل كالوالدة الثكلى، يشاهد القتال ويدعو ربه بنصره، وقد علم من شدة القوم ما لم يعلمه غيره وفي قلبه ما في قلبه، والله يثبته، ولم يزل القتال يعمل حول البطس من كل جانب والله يدفع عنها والريح يشتد والأصوات قد ارتفعت من الطائفتين والدعاء يخرق الحجب حتى وصلوا سالمين إلى ميناء البلد وتلقاهم أهل عكا تلقي الأمطار عن جدب، وامتاروا ما فيها، وكانت ليلة بليال.

.ذكر محاصرة برج الذباب:

ولما كان الثاني والعشرون من شعبان جهز العدو بطساً متعددة لمحاصرة برج الذباب، وهو برج في وسط البحر مبني على الصخر على باب ميناء يحرس به الميناء، ومتى عبره المراكب أمن غائلة العدو، فأراد العدو أخذه ليبقى الميناء بحكمه ويمنع الدخول إليه بشيء من البطس فتنقطع الميرة عن البلد، فجعلوا على صواري البطس برجاً وملأوه حطباً على أنهم يسيرون البطس، فإذا قاربت برج الذباب ولاصقته أحرقوا البرج الذي على الصاري وألصقوه ببرج الذباب ليلقوه على سطحه ويقتل من عليه من المقاتلة ويأخذوه، وجعلوا في البطسة وقوداً كثيراً حتى يلقى في البرج إذا اشتعلت النار فيه، وعبوا بطسة ثانية وملؤوها حطباً ووقوداً على أنهم يدفعون بها إلى أن تدخل بين البطس الإسلامية ثم يلهبونها فتحرق البطس الإسلامية ويهلك ما فيها من الميرة، وجعلوا في بطسة ثالثة مقاتلة تحت قبو بحيث لا يحصل لهم نشاب ولا شيء من آلات السلاح، حتى إذا أحرقوا ما أرادوا إحراقه دخلوا تحت ذلك القبو فأمنوا وقدموا البطسة نحو البرج المذكور، وكان طمعهم يشتد بحيث كان الهواء مصعدا لهم، فلما أحرقوا البطسة التي أرادوا أن يحرقوا بطس المسلمين بها والبرج الذي أرادوا أن يحرقوا به من على برج الذباب فأوقدوا النار وضربوا فيها النفط انعكس الهواء عليهم، كما شاء الله تعالى وأراد، واشتعلت البطسة التي كان فيها بأسرها، واجتهدوا في إطفائها فما قدروا، وهلك من كان فيها من المقاتلة إلا من شاء الله، واحترقت البطسة التي كانت معدّة لإحراق بطسنا، ووثبت أصحابنا عليها فأخذوها إليهم. وأما البطسة التي كانت فيها القبو فإنهم انزعجوا وخافوا وهموا بالرجوع، واختلفوا واضطربوا اضطراباً عظيما، فانقلبت وهلك جميع من كان بها، لأنهم كانوا في قبو لم يستطيعوا الخروج منها، وكان ذلك من أعظم آيات الله وأندر العجائب في نصرة دين الله. وكان يوماً مشهودا.

.ذكر وصول الألمان إلى عسكرهم المخول:

عدنا إلى حديث ملك الألمان، وذلك أنه أقام بطرابلس حتى استجمّ عسكره، وأرسل إلى النازلين على عكا يخبرهم بقدومه إليهم، وقد حموا من ذلك لأن المركيس صاحب صور هو رب مشورته وصاحب دولته، وكان الملك جفري وهو ملك الساحل بالعسكر هو الذي يرجع إليه في الأمور، فعلم أنه مع قدوم الألماني لا يبقى له حكم. ولما كان العشر الأخير من شعبان أزمع رأيه على المسير في البحر لعلمه أنه إن لم يركب البحر نكب وأخذت عليه الطريق والمضايق، فأعدوا المراكب وأنفذت إليه من كل جانب، ونزل فيها هو وعسكره وخيلهم وعدتهم، وساروا يريدون العسكر، فلم تمض إلا ساعة من النهار حتى قامت عليهم ريح عاصف وثار عليهم الموج من كل مكان وأشرفوا على الهلاك، وهلك منهم ثلاثة مراكب حمالة، وعاد الباقون يرصدون هواءً طيّباً، فأقاموا أيّاماً حتى طابت لهم الريح، وساروا حتى أتوا صور، فأقام المركيس والألماني بها، وأنفذوا بقية العساكر إلى المعسكر النازل عكا، وأقاما بصور إلى ليلة السادس من رمضان وسار الألماني وحده في البحر حتى وصل معسكرهم غروب الشمس من ذلك اليوم في نفر يسير. هكذا تخبر الجواسيس والمستأمنون عنهم. وقد كان لقدمه وقع عظيم من الطائفتين، وأقام أياما، وأراد أن يظهر لمجيئه أثر فرنج القوم على طول مقامهم، وحسن في رأيه أن تضرب مصاف مع المسلمين، فخوّفوه من الإقدام على هذا الأمر وعاقبته، فقال لابد من الخروج على اليزك ليذوق قتال القوم ويعرف مراسهم ويتبصر بأمرهم، فليس الخبر كالعيان، فخرج على اليزك الإسلامي واتبعه معظم الإفرنج راجلهم وفارسهم، وخرجوا حتى قطعوا الوهاد التي بين تلهم وتل العياضية، وعلى تل العياضية خيم اليزك، وهي نوبة الحلقة السلطانية المنصورة في ذلك اليوم، فوقفوا على وجوههم وقاتلوهم وأذاقوهم طعم الموت، وعرف السلطان ذلك، فركب من خيمته بحفلة وسار حتى أتى تل كيسان، فلما رأى العدو العساكر الإسلامية صوّبت نحوه سهام قصدها وأتته من كل جانب كقطع من الليل المظلم عاد ناكصاً على عقبه، وقتل منهم وجرح خلق كثير والسيف يعمل فيهم من أقفيتهم وهم هاربون حتى وصلوا المخيم غروب الشمس، وهو لا يعتقد سلامة نفسه من شدة خوفه، وفصل الليل بين الطائفتين، وقتل من المسلمين اثنان، وجرح جماعة كثيرة، وكانت الكثرة على أعداء الله. ولما عرف ملك الألمان ما جرى عليه وعلى أصحابه من اليزك الذي هو شرذمة من العسكر وهو جزء من كل، رأى أن يرجع إلى قتال البلد ويشتغل بمضايقته، فاتخذ من الآلات العجيبة والصنائع الغريبة ما هال الناظر إليه من شدة الخوف على البلد، واستشعر اخذ البلد من تلك الآلات وخيف منها عليه، فأحدثوا آلة عظيمة تسمى دبابة يدخل تحتها من المقاتلة خلق عظيم ملبسة بصفائح الحديد ولها من تحتها عجا تحرك به من داخل وفيها المقاتلة حتى ينطح بها الصور ولها رأس عظيم برقية شديدة من جديد وهي تسمى كبشاً ينطح بها الصور بشدة عظيمة، لأنه يجرها خلق عظيم فتهدمه بتكرار نطحها. وآلة أخرى وهي قبو فيه رجال السحب لذلك، إلاّ أن رأسها محدد على شكل السكة التي يحرث بها،ورأس البرج مدور، وهذا يهدم بثقله، وتلك تهدم بحدّتها وثقلها وهي تسمى سنورا، ومن الستائر والسلالم الكبار الهائلة. وأعدوا في البحر بطسة هائلة وضعوا فيها برجاً بخرطوم إذا أرادوا قلبه في السور انقلب بالحركات ويبقي طريقاً إلى المكان الذي ينقلب عليه تمشي عليه المقاتلة، وعزموا على تقريبه إلى برج الذباب ليأخذوه به.

.ذكر حريق برج الكبش وغيره من الآلات:

وذلك أن العدو لما رأى آلاته قد تمت واستكملت شرع في الزحف على البلد ومقاتلته من كل جانب، وأهل البلد كلما رأوا ذلك اشتدت عزائمهم في نصرة دين الله وقويت قلوبهم على المصابرة. ولما كان يوم الإثنين ثالث شهر رمضان من السنة المذكورة وهي التي قدمت به العساكر من الشام في أحسن زي وأجمل ترتيب وأكمل عدّة مع ولده صاحب حلب وسابق الدين صاحب شيزر ومجد الدين صاحب بعلبك، وكان السلطان التاث مزاجه الكريم بحمى صفراوية، فركب في ذلك اليوم وكان عيداً من وجوه متعددة، وفي ذلك اليوم زحف العدو على البلد في خلق لا يحصي عددهم إلاّ الله، فأهملهم أهل البلد وشجعان المقاتلة الذين فيه وذوو الآراء المثقفة من مقدمي المسلمين حتى نشبت مخاليب أطماعهم في البلد وسحبوا آلاتهم المذكورة حتى قاربوا أن يلصقوها بالسور، وتحصن منهم في الخندق جماعة عظيمة، وأطلقوا عليهم سهام الجروح وأحجار المنجنيق وأقواس الرمي والنيران وصاحوا عليهم صيحة الرجل الواحد وفتحوا الأبواب وباعوا نفوسهم لخالقها وبارئها. ورضوا بالصفقة الموعود بها، وهجموا على العدو من كل جانب وكبسوهم في الخنادق، وأوقع الله الرعب في قلب العدو، وأعطه ظهره الهزيمة وأخذوا مشتدين هاربين. على أعقابهم ناكصين. يطلبون خيامهم والاحتماء بأسوارهم لكثرة ما شاهدوا وذاقوا من الجرح والقتل، وبقي في الخندق خلق عظيم وقع فيهم السيف وعجل الله بأرواحهم إلى النار، ولما رأى المسلمون ما نزل بالعدو من الخذلان والهزيمة هجموا على كبشهم فألقوا فيه النار والنفط وتمكّنوا من حريقه فأحرقوه حريقاً شنيعاً، وظهرت له لهبة عظيمة نحو السماء، وارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل. والشكر للقوي الجليل. وسرت نار الكبش بقوّتها إلى السنور فاحترق، وعلق المسلمون في الكبش الكلاليب الحديدية المصنوعة في السلاسل فسحبوه وهو يشتعل حتى حصلوه عندهم في البلد وكان مركباً من آلات هائلة عظيمة ألقى الماء عليه حتى برد حديده بعد أيام. وبلغنا من اليزك أن وزن ما كان عليه من الحديد يبلغ مائة قنطار بالشامي، والقنطار مائة رطل، والرطل الشامي بالبغدادي أربعة أرطال وربع رطل. ولقد أنفذ رأسه إلى السلطان ومثل بين يديه، وشاهدته وقلبته، وشكله على مثل السفود الذي يكون بحجر المدار، قيل أنه ينطح به فيهدم ما يلاقيه. وكان ذلك من أحسن أيام الإسلام، ووقع على العدو خذلان عظيم، ورفعوا ما سلم من آلاتهم، وسكنت حركاتهم التي ضيعوا فيها نفقاتهم وتحيرت أبصار حيلهم، واستبشر السلطان بغرة ولده واستبارك بها حيث وجد النصر مقروناً بقدومه مرّة بعد أخرى، وثانية بعد أولى. ولما كان يوم الأربعاء الخامس عشر رمضان خرج أصحابنا من الثغر المحروس في شوان على بغتة من العدو، وضربوا البطسة المعدة لأخذ برج الذباب بقوارير نفط فاحترقت وارتفع لهبها في البحر ارتفاعاً عظيماً، وحزن الألمان لذلك حزناً شديداً، وغشيته كآبة عظيمة ووقع عليهم خذلان عميم. ولما كان يوم الخميس السادس عشر الشهر وصل كتاب طائر في طي كتاب وصل من حماة قد طار به الطائر من حلب يذكر فيه أن البرنس صاحب أنطاكية خرج بعسكر نحو القرى الإسلامية التي تليه لشن الغارات عليها، فبصرت به العساكر ونواب الملك الظاهر، فكمنت له الكمينات، فلم يشعر بهم إلاّ والسيف قد وقع فيهم، فقتل منهم خمسة وسبعون نفرا، وأسر خلق عظيم، واستعصم لنفسه في موضع يسمى شيحا، حتى اندفعوا وسار إلى بلده. وفي أثناء العشر الأوسط ألقت الريح بطستين فيهما رجال وصبيان ونساء وميرة عظيمة وغنم كثيرة قاصدين نحو العدو فغنمها المسلمون. وكان العدو قد ظفر منا بزورق فيه نفقة ورجال أرادوا الدخول إلى البلد فأخذوه،فوقع الظفر بهاتين الطستين ماحياً لذلك وجابراً له، ولم تزل الأخبار بعد ذلك تتواصل على ألسنة الجواسيس والمستأمنين أن العدو قد عزم على الخروج إلى العسكر الإسلامي خروج مصاف ومنافسه، والتاث مزاج السلطان بحمى صفراوية فاقتضى الحال تأخر العسكر إلى جبل سفرعم. وكان انتقاله تاسع عشر رمضان، فنزل السلطان على أعلى الجبل، ونزل الناس على رؤوس التلال للاستعداد للشتاء والاستراحة من الوحل. وفي ذلك اليوم مرض زين الدين يوسف بن زين الدين صاحب إربل مرضاً شديداً بحميين مختلفي الأوقات، واستأذن في الرواح فلم يؤذن له، فاستأذن في الانتقال إلى الناصرة، فأذن له في ذلك اليوم وأقام الناصرة أياماً عديدة بمرض نفسه، فاشتد به المرض إلى ليلة الثلاثاء ثامن عشر رمضان، وتوفي رحمه الله وعنده أخوه مظفر الدين يشاهده، وحزن الناس عليه لمكان شبابه وغربته، وأنعم السلطان على أخيه مظفر الدين ببلده، واستنزله عن بلاده التي كانت في يده وهي حرّان والرّها وما يتبعهما من البلاد والأعمال، وضمّ إليه بلد شهر زور أيضاً، واستدعى الملك المظفر تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه ليكون نازلاً مكانه جابراً لخلل غيبته، وأقام مظفر الدين في نظرة قدوم تقي الدين. ولما كان ضحاء نهار ثالث شوّال قدم وقد عاد صحبة معز الدين. في ذلك اليوم وأقام الناصرة أياماً عديدة بمرض نفسه، فاشتد به المرض إلى ليلة الثلاثاء ثامن عشر رمضان، وتوفي رحمه الله وعنده أخوه مظفر الدين يشاهده، وحزن الناس عليه لمكان شبابه وغربته، وأنعم السلطان على أخيه مظفر الدين ببلده، واستنزله عن بلاده التي كانت في يده وهي حرّان والرّها وما يتبعهما من البلاد والأعمال، وضمّ إليه بلد شهر زور أيضاً، واستدعى الملك المظفر تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه ليكون نازلاً مكانه جابراً لخلل غيبته، وأقام مظفر الدين في نظرة قدوم تقي الدين. ولما كان ضحاء نهار ثالث شوّال قدم وقد عاد صحبة معز الدين.